الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

الأراء التربوية عند الإمام ابن القيم الجوزية



الأرَاءُ التّربَوِيَةُ عِنْدَ الإمام ابْن القَيّم الجَوْزِية


إعداد/ عبدالرحمن بن إياد شكري
إشراف/ أ.د عيد بن حجيج الجهني
الجامعة الإسلامية - كلية الدعوة وأصول الدين
قسم التربية - مسار الإدارة التربوية

مادة الدراسات التربوية عند علماء المسلمين


أولاً: المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد , فإن أهم مصادر التشريع الإسلامي الكتاب والسنة , وخيرُ من فهم الكتاب والسنة النبوية هم سلفُ هذه الأمة , ومن علماء السلف الذين لهم دور كبير وأثر عظيم في نفوس المسلمين بتوجيهاتهم القيمة وفهمهم للنصوص الشرعية فهماً صحيحاً هو الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله , ويلاحظ الباحث ذلك الأثر الكبير في المؤلفات التي ألفها هذا العالم الجليل والتي تتجاوز 98 مؤلف كما أشار إلى ذلك بكر أبو زيد ( 1423هـ ) , ومما يدل على غزارة علمه وعمق ثقافته وطول باعه في التأليف ؛ ما تركه من تراث علمي في شتى العلوم , وما كتبه من مواضيع تتعلق ببعض القضايا العلمية والأخلاقية والتربوية , ومن هنا وَجَبَ علينا عمل المزيد من البحوث والدراسات التي تجسد الجهود التربوية لهذا الإمام.



ثانياً: الأسئلة


وتحتوي الأسئلة على سؤال رئيسي ويتفرع منه عدة أسئلة على النحو التالي:
السؤال الرئيسي: ما هي الأراء التربوية عند الإمام ابن القيم الجوزية ؟

* وتتفرع الأسئلة التالية:


س1/
ما هو رأي الإمام ابن القيم في التربية الإيمانية ؟
س2/ ما هو رأي الإمام ابن القيم في التربية الفكرية ؟
س3/ ما هو رأي الإمام ابن القيم في التربية الاجتماعية ؟
س4/ ما هو رأي الإمام ابن القيم في التربية الجنسية ؟



ثالثاً: مشكلة البحث

لما كثرت النظريات العلمية في شتى مجالات التربية ومن زوايا مختلفة كان لِزاماً أن نطلع إلى أراء كبار التربويين من علماء السلف , وذلك لما تحظى به مؤلفات الإمام ابن القيم من اهتمام بالغ في شتى جوانب التربية من التربية الإيمانية والتربية الروحية والتربية الفكرية والتربية العاطفية والتربية الخلقية والتربية الاجتماعية والتربية الإدارية والتربية البدنية والتربية الجنسية , وسوف أتطرق لها بإذن الله فيما يلي من عناصر.


رابعاً: الأهمية

إن الإمام ابن القيم الجوزي رحمه الله ترك علماً تربوياً هاماً , وإعداد الدراسات العلمية حول ما تركه الإمام ابن القيم سينعكس إيجابياً لدى الأجيال القادمة , ليعطي ذلك أهمية كبيرة لمعرفة الجهود التربوية الكبيرة التي قام بها طوال حياته وذلك لقيمة ذلك العلم الذي ألّفه الإمام ابن القيم .

وعند البحث والاطلاع في توجيهات الإمام ابن القيم التربوية لنجاح التربية سيجد أنها الأغلب في مؤلفاته , بدأً ببيان أهمية العلم والمعرفة , وبيان شرف العلم وذم الجهل , وحاجة الفرد والمجتمع إلى العلم , وانتهاءً بذكر جوانب التربية المختلفة من التربية الإيمانية والروحية والفكرية والعاطفية والخلقية والاجتماعية والإدارية والبدنية والجنسية.



خامساً: حدود البحث

إن الحديث عن الأراء التربوية لدى الإمام ابن القيم الجوزية تحتاج للاستقراء , وسأكتفي بذكر الجوانب التربوية في أراء الإمام ابن القيم الجوزية , وذلك من خلاله الدراسات السابقة , ومن كتبه المطبوعة والتي بلغ عددها أكثر من 33 كتاباً. (أبو زيد,1423هـ)



سادساً: المنهج


سوف أستخدم في بحثي هذا المنهج الاستقرائي , وهو جزء من المنهج الوصفي , ويتميز هذا المنهج بالاستنباط عن طريق الاسقراء العام للكتب , وهذا سأفعله مع مؤلفات الإمام ابن القيم حتى يتم الربط بين ما تم استنباطه وبين أهداف البحث والإجابة على تساؤلاته, كما أني سأستخدم في التوثيق طريقة الجمعية الأمريكية السيكوليجية ABA , وتتميز بالتوثيق داخل المتن .



سابعاً: مصطلحات البحث


الأسلوب التربوي: هو النهج الذي يختطه المربي لنفسه في تنمية المُربّى وتنشئته. (الحجاجي,1408)

الأراء التربوية: ويقصد بها الأراء والتوجهات والأفكار والمبادئ التي يُقر بها علماء التربية في قضية معينة , ويُقصد به هنا التعرّف على الأراء والأفكار التربوية المستنبطة من مؤلفات الإمام ابن القيم الجوزية.(الحجاجي,1408)



ثامناً: الدراسات السابقة



الدراسة الأولى: ( الفكر التربوي عند ابن القيم ) , للدكتور حسن بن علي الحجاجي (1408) , وهي رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الدكتوراه العالمية بقسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , وطبعت بدار حافظ للنشر والتوزيع بجدة , وهذه الدراسة اشتملت على ذكر العصر الذي عاش فيه الإمام ابن القيم من الناحية السياسة والاجتماعية والوضع الداخلي للبلاد والوضع الخارجي للبلاد , ثم بذكر رأي الإمام ابن القيم في الإنسان والتربية وذلك بالحديث عن قدرة الإنسان على التعلم , وأن الإنسان مستخلف في الأرض والغاية من خلق الإنسان , ثم تحدث في دراسته عن الفطرة لدى الإنسان , وأفرد في دراسته باباً سماه ( جوانب التربية عند ابن القيم ) , حيث تحدث في هذا الباب عن التربية الإيمانية ووسائلها ودلائل القدرة الإهية , ثم بالحديث عن الروح وصفتها وتعريفها , بعد ذلك تحدث عن الفكر ومفهوم الفكر , وأن التفكر من أعمال القلوب , والعلاقة بين الفكر والتفكر , وأختم رسالته بذكر أراء الإمام ابن القيم التربوية في شتى مجالات التربية.


الدراسة الثانية: ( ابن قيم الجوزية حياته , آثاره , موارده ) , للدكتور بكر بن عبدالله أبو زيد , وهي رسالة علمية متميزة , طُبعت للمرة الأولى عام 1412هـ بإسم ( ابن قيم الجوزية حياته وآثاره ) , ثم نُقحت ودمجت مع كتاب ( موارد ابن القيم في كتبه ) , وطبعت طبعة أخرى عام 1423هـ , وتتميز هذه الدراسة بذكر نسب الإمام ابن القيم والحديث عن أهل بيته وأخلاقه وعبادته وزهده ورحلاته وأعماله وحبه لجمع الكتب , ومنهجه في البحث والتأليف وغير ذلك من حياته الشخصية , ثم تحدث عن مؤلفاته وجهوده في التأليف وأنه ألف أكثر من 98 مؤلف وأسهب الحديث في ذلك فيما يزيد عن 100 صفحة , ثم أختم رسالته بذكر بعض الجوانب التربوية التي اهتم بها في جانب التأليف وذلك في الحديث عن منهجه رحمه الله.


الدراسة الثالثة: ( ابن القيم الجوزية واهتماماته التربوية ) , للدكتور طاهر بن سليمان حموده , وهي رسالة مقدمة في كتاب ( من أعلام التربية العربية الإسلامية ) والذي قام بطباعته مكتب التربية العربي لدول الخليج (1409هـ) , واهتم الباحث في دراسته بذكر البيئة والعصر الذي عاش فيه الإمام ابن القيم , ثم تحدث عن إنتاج الإمام ابن القيم الفكري وتنوعه , بعد ذلك أشار الباحث إلى بعض النتائج الهامة التي تتعلق ببحثه من أهمها : أن من أبرز اهتمامات الإمام ابن القيم في كتبه التربوية هو ذكر نعمة العقل , والتفكر في هذه النعمة العظيمة التي وهبها الله جل وعلا للإنسان , وأن الإنسان مسؤول عن نعمة العقل وعليه ألا يعطل وظيفته في حياته باتباع الهوى الذي يطمس نور العقل , ثم تحدث الباحث عما ذكره الإمام ابن القيم في الفراسة وأنها تنقسم إلى نوعين أحدهما يشترك فيه سائر الخلق من المؤمنين والكفار وسماها بالفراسة السفلية , والنوع الآخر الفراسة العلوية ؛ وتختص بأهل الإيمان الصادقين العارفين بالله , ففراستهم متعلقة بنور الوحي مع نور الإيمان , وبذكر وسائل العلم والمعرفة ومنها: السمع والبصر والعقل وسائر الحواس والتي ينتج عنها الفكر والاستنباط , ثم بالحديث عن القيم والأهداف في التربية الإسلامية من حيث المفهوم , وأن الإمام ابن القيم رحمه الله في استخدامه لمنهج التربية الخلقية والنفسية والعقلية والجسمية مستمداً من الكتاب والسنة , وأفاد في عرضه وتناوله لذلك شيئاً من منهج الصوفية الذين اعتنوا في مدرستهم بالقيم والأخلاق وتربية النفس والزهد. 




تاسعاً: الجوانب الشخصية عند الإمام ابن القيم


1- اسمه وكنيته:
هو: أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزُّرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن القيم الجوزية , وهذا هو نهاية ما تحرر الوقوف عليه في ذكر نسبه نحو ثلاثين كتاباً من كتب التراجم التي ترجمت له من المتقدمين والمتأخرين . (ابو زيد,1423,17).


2- تاريخ ولادته ومحلها:
تتفق كتب التراجم على أن تاريخ ولادته سنة 691هـ , وقد ولد وتوفي -رحمه الله- في دمشق. (الحجاجي,1408,38).



3- أخلاقه:
تميّز الإمام ابن القيم رحمه بالأخلاق الحميدة , وتظهر هذه الأخلاق الجليلة في مؤلفته , حيث قال رحمه الله في مدارج السالكين: ( من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إسائته ؛ فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلة , وتكل سريرته إلى الله تعالى , كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو , فلما جاؤوا يعتذرون إليه قَبِلَ أعذارهم , ووكل سرائرهم إلى الله تعالى). (ابن القيم,1393,126).


4- مكانته العلمية:
ذكرت كتب التراجم أنه رحمه الله سمع الحديث واشتغل بالعلم وبرع في علوم متعددة , لا سيما علم التفسير والحديث وغيرهما , ويُذكر أنه لازم الإمام ابن تيمية إلى أن مات الشيخ , فأخذ منه علماً جماً , وصار فريداً في فنون كثيرة مع كثرة الطلب ليلاً ونهاراً, وكل ذلك يدل على سعة اطلاعه , وغزارة علمه , وعُمق ثقافته. (الحجاجي,1408,39).


5- عبادته وزهده:
إن من يقرأ مؤلفات الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى خاصة كتابه مدارج السالكين فإنه يخرج بدلالة واضحة على أن ابن القيم رحمه الله تعالى كان لديه عمارة في قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية والاضرار والإنابة إلى الله جل في علاه , وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت مجامع قلبه لا على منهج المتصوفة الغلاة , بل على منهج السلف الصالح , وما عمر قلبه إلا بالتعلق بالله في السر والعلن.

قال تلميذه الإمام ابن كثير: ( لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه , وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جداً , ويمد ركوعها وسجودها , ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان , فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى). (ابن كثير, 1407,202).


6- من مؤلفاته:
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
- بدائع الفوائد.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
- الوابل الصيب من الكلم الطيب.
- كتاب الصلاة وأحكام تاركها.
- الروح.
- زاد المعاد في هدي خير العباد.
- روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
- أحكام أهل الذمة.
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.
- التبيان في أقسام القرآن.
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام.
- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
- مفتاح دار السعادة .
- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
- نكاح المحرم.
- فضل العلماء.
- رفع اليدين في الصلاة.
- شرح أسماء الكتاب العزيز.
- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.
- حكم تفضيل بعض الأولاد في العطية.



7- أبرز شيوخه:
- قيّم الجوزيه ( والده ).
- شيخ الإسلام ابن تيمية.
- بدر الدين ابن جماعه.
- ابن الشيرازي.
- شرف الدين ابن تيمية ( أخو ابن تيمية ).

- الحافظ الذهبي.


8- أبرز تلاميذه:
- الإمام الحافظ ابن كثير.

- الإمام ابن رجب الحنبلي.
- الإمام علي بن عبدالكافي السبكي.
- الحافظ ابن عبدالهادي المقدسي.
- الفيروزآبادي ( صاحب القاموس) .


9- وفاته:
اتفقت كتب التراجم على أن وفاته رحمه الله تعالى كانت ليلة الخميس 13 من شهر رجب في سنة 751هـ , وبه كمل له من العمر ستون سنة , رحمه الله رحمةً واسعة , وجمعنا به في مستقر رحمته. (ابو زيد,1423).




عاشراً: آراء الإمام ابن القيم الجوزية 



1- رأي الإمام ابن القيم في التربية الإيمانية:
الإيمان في الاصطلاح: قولٌ باللسان , واعتقاد بالقلب , وعمل بالجوارح , وفي تعريف الإيمان عند الإمام ابن القيم رحمه الله قوله: إن الإيمان قولٌ وعمل , والقول قول القلب واللسان , والعمل عمل القلب والجوارح.(ابن القيم,1429).

وفي ذكر التربية الإيمانية ؛ فإنها هي: مجموع الأنشطة والأعمال التي يمارسها المربي حيال المتربي في المحافظة على إيمانه وزيادته , ويتجسد ذلك المعنى في التربية الإيمانية عند الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله : ( وكُلٌ من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى , فينمو ويزيد ؛ حتى يكمل يكمل ويَصلح) . ( ابن القيم,المفتاح).
والإنسان في نظر الإمام ابن القيم الجوزية بحاجة إلى التعرف على الله سبحانه عن طريق أسمائه وصفاته , وإثباتها واعتقادها والإيمان بها , مع الطمأنينة إلى صدق ما أخبر الله به , ويظهر ذلك في قوله رحمه الله : (وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمأن في باب معرفة أسمائه -جل وعلا- , ونعوت كماله , وذلك من خبره الذي أخبر به سبحانه عن نفسه). (ابن القيم,1399).

وتظهر وسائل التربية الإيمانية في مؤلفات الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله على ما يسمى بالوسائل البنائية ؛ ومن هذه الوسائل البنائية النظر في دلائل القدرة الإلهية , وعظمة الخالق -جل وعلا- وحكمته ورحمته , ثم الدلائل في آيات الله الكونية وفي آياته في الأنفس , وفي لفت النظر إلى ظاهرة الموت , وبيان شأن العبادة من حيث أنها وسيلة من وسائل التربية الإيمانية.


2- رأي الإمام ابن القيم في التربية الفكرية:
يرى الإمام ابن القيم الجوزية في مؤلفاته أن هنام فرق بين الفكر والتفكر والتذكر والتأمل والتدبر والاستبصار , وفي ذكر الفكر فإن الإمام ابن القيم قد ذكر الفكر غي عدد من مؤلفاته , وأطال الحديث في الفرق بين الفكر والتفكر وسيأتي ذلك بإذن الله , فيقول -رحمه الله- متحدثاً عن الفكر: ( الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ؛ ليستثمر منها معرفة ثالثة. ( ابن القيم,1432,181 ).

 وفَرّق الإمام ابن القيم بين الفكر والتفكر , وجعل بينها رابطاً يربط بينهما , لأنه لا يمكن أن يكون التفكر لولا الفكر , ولأن الفكر له مورد يتعلق به , ويوصل إليه بأمور حاصلةٍ عنده تعتبر مبادئ ومقدمات له , وحتى يزداد هذا المعنى وضوحاً فإنه يقول رحمه الله : ( فاعلم أن التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من أمر هو حاصل منها لأن هذه حقيقته , فإنه لو لم يكن مورداً للفكر استحال الفكر ).( ابن القيم,1432,181 ).

وبعد أن ذكر مفهوم الفكر والتفكر , ذكر رحمه الله وسائل مهمة في تربية الفكر من أهمها: الدعوة إلى النظر في مخلوقات الله -عز وجل- في الأنفس والآفاق بعين البصيرة النيرة لاستجلاء عظمة الله فيها , ومعرفة قدرته وحكمته الباهرة حيث يقول رحمه الله: (وإذا نظرت إلى الأرض , وكيف خُلقت رأيتها من أعظم آيات فاطرها ومبدعها , خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً , وذللها لعباده وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعاييشهم. ( ابن القيم,1432,184 ).


3- رأي الإمام ابن القيم في التربية الاجتماعية:
إن التربية الاجتماعية السليمة في نظر الإمام ابن القيم الجوزية هي التي تراعي مشاعر الآخرين , فالفرد في المجتمع لا يصح له أذية أخيه المسلم بأي نوع من الأذية الحسية أو المعنوية , ولا حتى بالرائحة الكريهة , ويظهر ذلك المعنى لدى الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله : ( وقد أمرهم الله يوم الجمعة بالغسل والطيب عند اجتماعهم , لئلا يؤذي بعضهم بعضاً برائحته التي إنما يتجشمها ساعة للاجتماع ثم يفترقان , ومنع آكل الثوم والبصل من دخول المسجد لأجل أذية الناس والملائكة به. ( ابن القيم,1432,248 ).

ونبه رحمه الله في عدم أذية المسلم لأخيه المسلم بأي وجه كان , حتى لو كان مازحاً لئلا ينعكس ذلك الفعل إلى المشاكل والخلافات التي تؤدي إلى تفرق المسلمين وتشتتهم , قال رحمه الله : ( ومنع أحدهم أن يأخذ متاع أخيه لاعباً ؛ لأن ذلك يؤذيه ). ( ابن القيم,1432,248 ).

ويرى ابن القيم رحمه الله أن التربية الاجتماعية البناءة هو التي تنتج أفراداً يحب بعضهم بعضاً , ويدعو بعضهم لبعض بظهر الغيب , ومن ثمرات ذلك الدعاء هو تأمين الملائكة على دعاء الرجل لأخي المسلم , وتبشيره له بأن له مثل هذه الدعوات.( ابن القيم,1432,211 ).

وذكر رحمه الله الحذر من صحبة الجاهلين , وأن صحبة الجاهل فيها ضرر على الانسان ؛ لأن الجاهل يضر صاحبه وهو يظن أنه ينفعه , وذلك في قوله رحمه الله : ( إن العدو العاقل أقل ضرراً من الصديق الجاهل , فإن الصديق الجاهل يضرك من حيث يظن أنه ينفعك ).( ابن القيم,1432,212 ).

وذكر رحمه الله تأثر الطفل بالوسط الاجتماعيفي كتابه تحفة المودود بأحكام المولود , وأنه يجب على ولي أمر الطفل أن يجنبه المجالس التي يسودها ويكثر بها المنكرات وتتفشى فيها الضلالات ؛ لأن الطفل صافي الفطرة , نقي السريرة , قلبه صفحة بيضاء ينقش عليها كل ما لامسها , يقول رحمه الله : ( يجب أن يجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء ؛ فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر ). ( أحكام المولود ابن القيم 240).


4- رأي الإمام ابن القيم في التربية الجنسية:
يرى العديد من الباحثين والمفكرين أن معنى التربية الجنسية هو: إعطاء الطفل الخبرة الصالحة التي تؤهله لحسن التكيف في المواقف الجنسية في مستقبل حياته وحاضره. (الاستانبولي,1402,17)

وفي حديثنا عن التربية الجنسية في رأي الإمام ابن القيم الجوزية فإنه يرى رحمه الله أن الزواج هو تلبية للرغبة الفطرية التي فطر الله الناس عليها , وأن الجماع وضع لأمور ثلاثة ذكرها رحمه الله في قوله: ( فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور: حفظ النسل , وإخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه في البدن , قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة ). (ابن القيم , 1377,194)

وفي نظرة الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله التربوية الفقهية التي ذكر فيها ظروفاً شرعيةً معينة تبيح الاستنماء باليد ؛ لمن ليس قادراً على الزواج , وكان مغلوباً على شهوته , ويخاف الضرر على نفسه بقوله: ( وإن كان مغلوباً على شهوته يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير جاز له ذلك , كما نص على ذلك الإمام أحمد ). (ابن القيم,1430,96)

وذكر رحمه الله فيما يعود على الجماع المباح من فوائد تعود على الرجل وعلى زوجته وعلى المجتمع , من غض البصر , والعفة عن المحرم  وكف النفس , فيقول رحمه الله : ( ومن منافعه غض البصر وكف النفس والقدرة على العفة عن الحرام , وتحصيل ذلك للمرأة ؛ فهو ينفع نفسه وينفع المرأة ). (ابن القيم , 1377,195)

ثم تحدث رحمه الله عن وسائل التربية والتوعية الجنسية من الكتاب والسنة , ومن أبرز تلك الوسائل غض البصر , حيث ذكر رحمه الله في كتابه الجواب الكافي عدداً من الفوائد لغض البصر وتتلخص في الآتي:
- أنه امتثال لأمر الله -جل وعلا-.
- أنه يورث القلب أنساً بالله.
- أنه يورث القلب نوراً.

- أنه يقوي القلب ويفرحه.
- أنه يورث الفراسة الصادقة.
- أنه يورث ثباتاً وشجاعة.
- أنه يسد على الشيطان المداخل إلى القلب.
- أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه.
- أن فيه شعور لمراقبة الله -سبحانه-.
- أن بين العين والقلب منفذاً يوجب اشتغال أحدهما على الآخر , وأنه يصلح بصلاحه , ويفسد بفساده  , فإذا فسد القلب فسد النظر , وإذا فسد النظر فسد القلب. (ابن القيم,1418,125)




الحادي عشر : النتائج

1- أن الإمام ابن القيم يتميز بأراء تربوية قيمة في شتى مجالات التربية , ويظهر ذلك من غزارة علمه وسعة باعه في تأليفه لأكثر من 90 مؤلفاً.

2- أن ابن القيم رحمه الله واحد ممن سبق واضعي علم النفس الحديث , وذلك من خلاله بيانه أن الإنسان خلقاً مزوداً بدوافع وغرائز , وأن النظرية التربوية عند ابن القيم تهتم بالإنسان في جميع مراحل حياته.

3- أن أراء الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في التربية الإيمانية تنبني على وسائل بنائية تتلخص في الدلائل الواضحة في آيات الله الكونية وفي آياته بالأنفس , وفيما لفت به الأنظار بذكره لظاهرة الموت والتفصيل فيها , وذكره للآخرة وأن الدنيا فانية.

4- أن الإمام ابن القيم يرى أن هناك فرق بين الفكر والتفكر , وأن التفكر نابع من الفكر وأنه لابد للمسلم أن يتفكر في مخلوقات الله العظيمة كالسماوات والأرض والجبال والتي تعكس لمن يتفكر فيها عظمة الله وقدرته وجلاله.

5- أن رأي الإمام ابن القيم في التربية الاجتماعية أي في التعامل الراقي مع الآخرين ومراعاة مشاعرهم , وأنه لا ينبغى أذية المسلم بأي حال من الأحوال حتى ولو كان ذلك من باب المزاح , وأكد على أهمية البحث عن الصديق الصالح العاقل , وحذر من صحبة الجاهل وأن العدو العاقل أقل ضرراً من الصديق الجاهل , وبين أثر الطفل بالوسط الاجتماعي وأنه يتأثر بمجالس اللهو والغناء وسماع الفحش وأن ذلك يترك أثراً في نفس الطفل لا يفارقه في الكبر. 



الثاني عشر : التوصيات


بناءً على ما ذكرنا من نتائج , فإنه يجب حقيقةً على الباحثين والمهتمين بسير السلف أن يلفتوا أنظارهم إلى بعض الدورس التربوية التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتبه , وإفرادها في كتيبات بسيطة توزع على العامة , والاهتمام بالجوانب والأراء التربوية الأخرى التي يجب استنباطها من مؤلفات هذا الإمام العظيم مثل: التربية البدنية , تربية الطفل , التربية الخلقية , التربية الأسرية وغيرها من جوانب التربية المختلفة التي لم أتطرق لها في بحثي هذا.

إن شخصية الإمام ابن القيم رحمه الله لم تدرس الدراسة الكافية , ولم يخدم تراثه العلمي بالشكل الذي يجب أن يبرز للأجيال القادمة , لذا أوصي أن تتبنى الجامعة الإسلامية فكرة إحياء تراث هذا المربي وذلك بإنشاء مكتبة لابن القيم تجمع جميع كتبه , وأن يخصص لها دراسات تربوية في شتى مجالات التربية تنبثق من قسم التربية بالجامعة الإسلامية , كما أوصي بإعداد دراسات علمية بمنهج المقارنة بين بعض علماء السلف وآرائهم التربوية المختلفة.




الثالث عشر : المراجع


م
المرجع
1
ابن القيم , محمد , 1377هـ , الطب النبوي , ط1 , دار إحياء الكتب العربية , القاهرة
2
ابن القيم , محمد , 1391هـ  , تحفة المودود بأحكام المولود  , ط1 , مكتبة دار البيان , دمشق
3
ابن القيم , محمد , 1393هـ  , مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين , ط2 , دار الكتاب العربي , بيروت.
4
ابن القيم , محمد , 1399هـ  , الروح  , ط1 , دار الكتاب العربي , بيروت.
5
ابن القيم , محمد , 1418هـ  , الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي , ط1 , دار الفكر المعرفة , بيروت
6
ابن القيم , محمد , 1429هـ  , عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين , ط1 , مجمع الفقه الإسلامي , المملكة العربية السعودية جدة
7
ابن القيم , محمد , 1430هـ  , بدائع الفوائد , ط1 , مجمع الفقه الإسلامي , المملكة العربية السعودية جدة
8
ابن القيم , محمد , 1432هـ  , مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة , ط1 , مجمع الفقه الإسلامي , المملكة العربية السعودية جدة
9
ابن كثير , إسماعيل , 1407هـ , البداية والنهاية , ط1 , دار الفكر العربي , بيروت
10
ابو زيد , بكر , 1423هـ , ابن قيم الجوزية حياته آثاره موارده , ط2 , دار العاصمة , المملكة العربية السعودية الرياض.
11
الاستانبولي , محمود , 1402هـ , التربية الجنسية , ط3 , المكتب الإسلامي دمشق
12
الحجاجي , حسن , 1408هـ , الفكر التربوي عند ابن القيم , ط1 , دار حافظ للنشر والتوزيع , المملكة العربية السعودية الرياض.

هناك تعليقان (2):

  1. احسنت وبارك الله فيك، طرح وتلخيص جيد لآراء ابن قيم الجوزية في التربية، وفقك الله.

    ردحذف
  2. MGM Grand Casino - Mapyro
    MGM Grand Hotel & Casino - 경기도 출장마사지 Las Vegas, NV. The hotel offers a 논산 출장샵 casino, a swimming pool, and 나주 출장안마 a nightclub. Book 강릉 출장마사지 your stay at 남원 출장샵 MGM Grand, located at:.

    ردحذف